أبو العَلاء المَعَرّي أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخِيّ، المعروف بأبي العَلاء. ولِدَ في مَعَرَّة النّعْمان بين حلب وحماه وإليها نُسِبَ. أصيب بداء الجدري في طفولتهِ وكان في الثالِثة ثم فقد بَصَرهُ وكان في السادِسة. لم يَحُلْ ذلكَ دون تَحْصيلِهِ للثّقافة الواسِعة، فأخذَ عن أبيه مبادِئ العُلوم، ثم راح يطوف في البلاد من مَعَرّة النعمان إلى حَلب إلى أنطاكية إلى اللاذقية إلى طرابلس الشام، باحِثاً مُنَقِّباً، مُخْتَلِفاً إلى المكتبات ودور العِلم، مُتَرَدّداً على العُلَماء والرهبان، جائلاً في كُلّ فَن، وفي كل فرع من فروع المعرِفة، حتى كانت له ثقافة واسِعة عميقة. نظم الشعر منذ حداثته وانقادَت له القوافي كما انقادَت له اللغة وعُلومها.في سنة 1007 ميلاديّة سكن حَيّاً قديما يُدعى "سويقة ابن غالب" حيث جالس وعاشر كبار الرجال وأرْباب الثّقافة. كما كان له في عاصمة الخلافة أثراً عظيماً أثار إعجاب المعجبين، وحسد الحاسدين.وفيما هو كذلك بَلَغَه نبأ وفاة والدته فغادَرَ بغداد قاصِداً المَعَرّة، وفيما هو في الطريق تُوفِيَتْ والدتهُ، فجَزَعَ عليها جَزَعاً عظيماً، وكان لوفاتها أثر عميق في نفسه ما زادهُ تشاؤماً وحَمَلهُ على الزُّهْدِ واعْتِزال الدّنيا. فَلَزمَ بيته في المَعَرّة وَسَمّى نَفسهُ "رَهين المحْبسَيْن" يعني العَمى والبيت. ونظَمَ ديوانهُ الفَلْسَفِيّ الذي سَمّاهُ "اللزوميات" كما وَضَعَ رِسالة الغُفْران. كان أبو العلاء مَطْمَحَ الأنظار، ومَحَطّ الآمال، يقصدهُ القاصي والدّاني، لِيَسْمَع أقوالهُ ويَغْرِف من بَحْرهِ.توفِيَ عن عمر ناهز الخامسة والثمانين في بيته في المَعَرّة بعد أن أثرى المكتبة العربية بعيون الشعر، ودُرر النَّثْر. فَضَجَّت البلاد لوفاته، ورثاه الشعراء وبكاه الأدباء.تركَ المعَري مؤلفات كثيرة قيلَ إنها بَلَغَت الخمسين، ولم يَصِلْنا منها إلا بِضعة مؤلّفات نذكُر منها: "اللزوميات" أو (لزوم ما لا يَلْزَم)، و"سِقْطُ الزَّنْد"، و"ضَوء السِّقط" (وهو شرح المَعَرّي على سقطه)، و"عَبَثُ الوليد" (شَرح على البُحْتُري ونقد له)، و"معجزة أحمد" (في شرح شِعْر المُنَبّي)، ورسالة الغُفران"، و"زجر النابِح"، ورسالة المَلائكة. ولن ندخُل في ما قالهُ أبو العَلاء الناثِر، على جماله وروعته وأهَمّيَتهِ وسنكتفي بإيراد إحدى قصائده العظيمة:
[rtl]غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي[/rtl]
[rtl]نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ[/rtl]
[rtl]وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي[/rtl]
[rtl]سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ[/rtl]
[rtl]أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْ[/rtl]
[rtl]نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ[/rtl]
[rtl]صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ[/rtl]
[rtl]بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ[/rtl]
[rtl]خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال[/rtl]
[rtl]أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ[/rtl]
[rtl]وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْ[/rtl]
[rtl]دُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ[/rtl]
[rtl]سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً[/rtl]
[rtl]لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ[/rtl]
[rtl]رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً[/rtl]
[rtl]ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ[/rtl]
[rtl]وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ[/rtl]
[rtl]في طَويلِ الأزْمانِ وَالآباءِ[/rtl]
[rtl]فاسْألِ الفَرْقَدَينِ عَمّنْ أحَسّا[/rtl]
[rtl]مِنْ قَبيلٍ وآنسا من بلادِ[/rtl]
[rtl]كَمْ أقامَا على زَوالِ نَهارٍ[/rtl]
[rtl]وَأنارا لِمُدْلِجٍ في سَوَادِ[/rtl]
[rtl]تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْ[/rtl]
[rtl]جَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ[/rtl]
[rtl]إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ أضْعَا[/rtl]
[rtl]فُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ[/rtl]
[rtl]خُلِقَ النّاسُ للبَقَاءِ فضَلّتْ[/rtl]
[rtl]أُمّةٌ يَحْسَبُونَهُمْ للنّفادِ[/rtl]
[rtl]إنّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أعْما[/rtl]
[rtl]لٍ إلى دارِ شِقْوَةٍ أو رَشَادِ[/rtl]
[rtl]ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ ال[/rtl]
[rtl]جِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ[/rtl]
[rtl]أبَناتِ الهَديلِ أسْعِدْنَ أوْ عِدْ[/rtl]
[rtl]نَ قَليلَ العَزاءِ بالإسْعَادِ[/rtl]
[rtl]إيه للّهِ دَرّكُنّ فأنْتُنّ اللْ[/rtl]
[rtl]لَوَاتي تُحْسِنّ حِفْظَ الوِدادِ[/rtl]
[rtl]ما نَسيتُنّ هالِكاً في الأوانِ ال[/rtl]
[rtl]خَالِ أوْدَى مِنْ قَبلِ هُلكِ إيادِ[/rtl]
[rtl]بَيْدَ أنّي لا أرْتَضِي مَا فَعَلْتُنْ[/rtl]
[rtl]نَ وأطْواقُكُنّ في الأجْيَادِ[/rtl]
[rtl]فَتَسَلّبْنَ وَاسْتَعِرْنَ جَميعاً[/rtl]
[rtl]منْ قَميصِ الدّجَى ثيابَ حِدادِ[/rtl]
[rtl]ثُمّ غَرِّدْنَ في المَآتِمِ وانْدُبْ[/rtl]
[rtl]نَ بِشَجْوٍ مَعَ الغَواني الخِرادِ[/rtl]
[rtl]قَصَدَ الدهر من أبي حَمزَةَ الأوْ[/rtl]
[rtl]وَابِ مَوْلى حِجىً وخِدن اقتصادِ[/rtl]
[rtl]وفَقيهاً أفكارُهُ شِدْنَ للنّعْ[/rtl]
[rtl]مانِ ما لم يَشِدْهُ شعرُ زِيادِ[/rtl]
[rtl]فالعِراقيُّ بَعْدَهُ للحِجازِىْ[/rtl]
[rtl]يِ قليلُ الخِلافِ سَهْلُ القِيادِ[/rtl]
[rtl]وخَطيباً لو قامَ بَينَ وُحُوشٍ[/rtl]
[rtl]عَلّمَ الضّارِياتِ بِرَّ النِّقَادِ[/rtl]
[rtl]رَاوِياً للحَديثِ لم يُحْوِجِ المَعْ[/rtl]
[rtl]رُوفَ مِنْ صِدْقِهِ إلى الأسْنادِ[/rtl]
[rtl]أَنْفَقَ العُمرَ ناسِكاً يَطْلُبُ العِلْ[/rtl]
[rtl]مَ بكَشْفٍ عَن أصْلِهِ وانْتِقادِ[/rtl]
[rtl]مُستَقي الكَفّ مِنْ قَليبِ زُجاجٍ[/rtl]
[rtl]بِغُرُوبِ اليَرَاعِ ماءَ مِدادِ[/rtl]
[rtl]ذا بَنَانٍ لا تَلْمُسُ الذّهَبَ الأحْ[/rtl]
[rtl]مَرَ زُهْداً في العَسجَدِ المُستَفادِ[/rtl]
[rtl]وَدِّعا أيّها الحَفيّانِ ذاكَ الشْ[/rtl]
[rtl]شَخْصَ إنّ الوَداعَ أيسَرُ زَادِ[/rtl]
[rtl]واغْسِلاهُ بالدّمعِ إنْ كانَ طُهْراً[/rtl]
[rtl]وادْفِناهُ بَيْنَ الحَشَى والفُؤادِ[/rtl]
[rtl]واحْبُوَاهُ الأكْفانَ مِنْ وَرَقِ المُصْ[/rtl]
[rtl]حَفِ كِبْراً عن أنْفَسِ الأبْرادِ[/rtl]
[rtl]واتْلُوَا النّعْشَ بالقِراءَةِ والتّسْ[/rtl]
[rtl]بِيحِ لا بالنّحيبِ والتّعْدادِ[/rtl]
[rtl]أسَفٌ غَيْرُ نافِعٍ وَاجْتِهادٌ[/rtl]
[rtl]لا يُؤدّي إلى غَنَاءِ اجْتِهادِ[/rtl]
[rtl]طالَما أخْرَجَ الحَزينُ جَوَى الحُزْ[/rtl]
[rtl]نِ إلى غَيْرِ لائِقٍ بالسَّدادِ[/rtl]
[rtl]مِثْلَ ما فاتَتِ الصّلاةُ سُلَيْما[/rtl]
[rtl]نَ فَأنْحَى على رِقابِ الجِيادِ[/rtl]
[rtl]وهوَ مَنْ سُخّرَتْ لهُ الإنْسُ والجِنْ[/rtl]
[rtl]نُ بما صَحّ من شَهادَةِ صَادِ[/rtl]
[rtl]خافَ غَدْرَ الأنامِ فاستَوْدَعَ الرّي[/rtl]
[rtl]حَ سَليلاً تَغْذُوهُ دَرَّ العِهَادِ[/rtl]
[rtl]وَتَوَخّى لَهُ النّجاةَ وَقَدْ أيْ[/rtl]
[rtl]قَنَ أنّ الحِمَامَ بالمِرْصادِ[/rtl]
[rtl]فَرَمَتْهُ بهِ على جانِبِ الكُرْ[/rtl]
[rtl]سِيّ أُمُّ اللُّهَيْمِ أُخْتُ النّآدِ[/rtl]
[rtl]كيفَ أصْبَحتَ في مَحلّكَ بعدي[/rtl]
[rtl]يا جَديراً منّي بحُسْنِ افتِقادِ[/rtl]
[rtl]قد أقَرّ الطّبيبُ عَنْكَ بِعَجْزٍ[/rtl]
[rtl]وتَقَضّى تَرَدّدُ العُوّادِ[/rtl]
[rtl]وَانْتَهَى اليأسُ مِنكَ وَاستشعَرَ الوَجْ[/rtl]
[rtl]دُ بأنْ لا مَعادَ حتى المعادِ[/rtl]
[rtl]هَجَدَ السّاهرُونَ حَوْلَكَ للتمْ[/rtl]
[rtl]ريضِ وَيحٌ لأعْيُنِ الهُجّادِ[/rtl]
[rtl]أنتَ مِن أُسْرةٍ مَضَوْا غَيرَ مَغْرُو[/rtl]
[rtl]رينَ مِنْ عَيشَةٍ بِذاتِ ضِمادِ[/rtl]
[rtl]لا يُغَيّرْكُمُ الصّعيدُ وكونوا[/rtl]
[rtl]فيهِ مثلَ السّيوفِ في الأغمادِ[/rtl]
[rtl]فَعَزيزٌ عَليّ خَلْطُ اللّيالي[/rtl]
[rtl]رِمَّ أقدامِكُمْ بِرِمّ الهَوَادي[/rtl]
[rtl]كُنتَ خِلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ ال[/rtl]
[rtl]بَينَ وَافَقْتَ رأيَهُ في المُرادِ[/rtl]
[rtl]ورأيتَ الوَفاءَ للصّاحِبِ الأوْ[/rtl]
[rtl]وَلِ مِنْ شيمَةِ الكَريمِ الجَوادِ[/rtl]
[rtl]وَخَلَعْتَ الشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْ[/rtl]
[rtl]تَكَ أَبْلَيْتَهُ مَعَ الأنْدادِ[/rtl]
[rtl]فاذْهَبا خير ذاهبَينِ حقيقَيْ[/rtl]
[rtl]نِ بِسُقْيا رَوائِحٍ وَغَوَادِ[/rtl]
[rtl]ومَراثٍ لَوْ أنّهُنّ دُمُوعٌ[/rtl]
[rtl]لمَحَوْنَ السّطُورَ في الإنْشادِ[/rtl]
[rtl]زُحَلٌ أشرَفُ الكَواكبِ داراً[/rtl]
[rtl]مِنْ لِقاءِ الرّدَى على ميعادِ[/rtl]
[rtl]ولِنارِ المِرّيخِ مِن حَدَثانِ الدّهْ[/rtl]
[rtl]رِ مُطْفٍ وَإنْ عَلَتْ في اتّقادِ[/rtl]
[rtl]وَالثَرَيّا رَهينَةٌ بِافْتِراقِ الشْ[/rtl]
[rtl]شَمْلِ حَتّى تُعَدّ في الأفرادِ[/rtl]
[rtl]فليَكُنْ لِلْمُحَسَّنِ الأجَلُ المَمْ[/rtl]
[rtl]دودُ رغماً لآنُفِ الحُسّادِ[/rtl]
[rtl]وَلْيَطِبْ عَنْ أخيهِ نَفساً وأبْنا[/rtl]
[rtl]ء أخيهِ جَرائحِ الأكبادِ[/rtl]
[rtl]وإذا البَحْرُ غاضَ عنّي ولم أرْ[/rtl]
[rtl]وَ فلا رِيّ بادّخارِ الثِّمادِ[/rtl]
[rtl]كُلُّ بَيْتٍ للْهَدْمِ ما تَبْتَني الوَرْ[/rtl]
[rtl]قاءُ والسّيّدُ الرّفيعُ العِمادِ[/rtl]
[rtl]والفَتَى ظاعِنٌ ويَكفيهِ ظِلُّ السْ[/rtl]
[rtl]سَدْرِ ضَرْبَ الأطْنابِ والأوْتادِ[/rtl]
[rtl]بانَ أمْرُ الإلَهِ واختَلَفَ النّا[/rtl]
[rtl]سُ فَداعٍ إلى ضَلالٍ وَهَادِ[/rtl]
[rtl]والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ[/rtl]
[rtl]حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ[/rtl]
[rtl]واللّبيبُ اللّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترْ[/rtl]
[rtl]رُ بِكُوْنٍ مَصيرُهُ للفَسادِ[/rtl]