مـن أرشـيـف الـذكـريـات

الـثـالثة

بدوري كنت سـعـيـدا وأسـتـغـلـيت النقـاش مـن أجـل أن أقـوي لـغـتـي وخـاصـة بـأنـنـي عـنـدمـا تـقـدمـت لامـتـحـان الـقـبـول لـم يـكـن لي في المـانـيـا سـوى شـهـور قـليـلـة مـنـهـا عـدة أسـابـيـع بـيـن الـطـلبـة المـسـلمـين والـذيـن أتـخـذوا مـن شـقـة مـقـرا مـن أجـل الصـلاة ومساعـدة الطـلبـة الـجـدد فـي المبيت حـتـى يستقـرون ويـرجـع لـهـم الـفـضـل أن أخـذونـي بـيـن أجـنـحـتـهـم وعـمـلوا جـدولا مـن أجـل تـعـليـمـي فـلم يـمـريـوم حـتـى كـان أحـدهـم يـجـلس مـعـي من صـلاة الـفـجـر حــتـى الـضـحـى ومـن الـظـهـيـرة حـتـى صـلاة الـعـصـر وهـكـذا حتى العـشـاء وكـل مـن كـان يجـد عـنـده فـراغا مـن الإخـوة عـربا كانوا أو بـاكـسـتـانـييـن وهـنـود كـان يـحـضـر خـصـيـصا لـيـراجـع مـعـي.

كـان هـذا في مـديـنـة أخـن الـصـغيـرة والـشـهـيـرة بـكـليـة الهـندسـة وتـعـم بـالطـلـبـة الأجـانـب وبـهـا بـعـض المـصـانـع وأجـانـب يـعـمـلـون بـهـا وهـي واقــعـة في غـرب ألمـانـيـا قـريـبـة مـن بـلـجـيـكـا ولـهـا حـدود مـع هـولـنـدا حـيـث كـنـا نـخـرج بـالـدراجـات أو بـالـمـتـرو للـتسـوق وما هي إلا أسـابـيـع قـليـلة حـتى أعـلـنـت جـامـعـة كـولـون تبـعـد (80كم عـن اخـن) عـن فـتـح بـاب التـسـجـيـل عـن كـورس لـغـة لـمـدة شـهـريـن. التـحـقـت بـه حـيـث كـنـت أسافـر بالقـطـار يـومـيـا مـن الصـبـاح البـاكـر وفي المسـاء بـعـد صـلاة الـمـغـرب كـان أحـدهـم يـجـلس مـعـي ونـراجـع عـمـل اليـوم ومـا إن انـتـهـى الـكـورس حـتـى وصـلـتـنـي رسـالـة مـن جـامـعـة فـورتسـبـورق الـواقـعـة في جـنـوب المـانـيـا تـخبرنـي بـقـبـولي في السنة التحضيرية والتي تأهل لدخول الجامعة بـعـد أجتيـازهـا بـنـجـاح وهـنـاك فرصـة لـمن يـجـد في نفسه الكفائة لأجتياز هذا الأمتحان مع الطلبة الذي انـهـوا السـنـة وإذا اردت ذلك عليك التسجيل لهذا الأمتحـان.
حمـدت الله بـأنني قـبـلت ومـا هـي إلا سـنة وأصبـح طـالبـا. ولـكن الأخـوة كـان لـهـم رأيا أخـر عـلمـا بأنني كنت أفـضـل أن أبدأ بالسـنـة الـتـحـضـيـرية حتى أتمكن من اللغة لأن دراسة الـطـب لـيست بالشئ الـهين وثـانـيـا كـنـت لا أحـب دخـول امـتحان لست مـتأكـدا مـن نـتـيـجـتـه ولـكـنهم شجـعـونـي حـيث إن المواد لا تـخـتـلف عن مـواد الثـانـوية الـعـامة في بـلادنـا لـطـلبـة الـعـلمي أمـا اللـغـة تـتـكـون مـن قـطـعـة إنـشـاء وإمـلاء وقـراءة صـحـيـفة ثـم نـبـذة عــن البـلـد التي أتـيـت مـنـها وأخـرى عـن ألمـانـيـا بشكـل عـام.
بعـد هـذا الشـرح القيم وبـمـا أننـي مـنذ الصـغـر دخـلت الـكـشافـه فـقـررت أن أتـقـدم لـهـذا الأمتحـان ومـا هـي إلا مـغـامـرة إن نـجـت بـهـا كـان بـهـا ولـم أخـصـر شيئا. كـان أمـامـي أسـبـابـيـع قـليـلة ونشـط الإخـوة فـي إحضـار الصـحـف والـكتـب حـيـث لـديـهـم خـبرة في ذلك فـمـنهم مـن جـازف ونـجـح ومـنهم مـن درس السـنـة.

مـضى الـوقـت بسـرعـة وحـزمـت حـقيـبـتـي وودعـت إخـوتـي في الله على أن نـلتـقي يـومـا إذا أراد الله ذلك ركبت القطار بعد منتصف الليل ووصلت في الصباح ثم توجهت إلى الجامعة وأخذت موافـقـة للسكـن في بيت الطلبة. وفي اليوم التالي كنت أجلس مع مجموعة لا بـأس بها مـن الـطـلبـة الأجانـب الـذيـن أنهـوا السنة التحضيـرية وقليـلون مـن هـو مـثـلـي جـاء يـجـرب حـظـه ليـعـود إلى الـجـامـعـة التي قـبـل بـهـا.
بـدأنـا في اليـوم الأول بامـتحـان الفـيزيـاء والكيمياء والثاني رياضيات والثالث اللغة الذي امتد لساعات طوال أما اليـوم الـرابع كـانــت الـمـفـاجـأة حـيـث عـلـقـت كـشـوف بـأسـمـاء الـطـلـبـة الـذيـن اجـتـازوا الامـتـحـان الـتـحـريـري وعـليـهـم الانتـظـار للـشـفـهـي فـمن كـان اسمه في الكشـف عـليه الانتظار.
لـم أصـدق نـفسـي عـنـدمـا رأيـت اسـمـي وعـلـت دقـات الـقـلـب. أخـذنـا نـدخـل فـرادى أمـام لـجـنـة مـكـونـة مـن أربعـة أسـاتـذة وجـاء دوري وأصـبـحـت وجـهـا لـوجـه للـجـنـة وعـلا الـضـغـط أيـضـا ولـكـن سـرعـان مـا بـدأ الهـدوء يـخـيـم عـلى نـفـسـي وغـاب الـتـوتـرالـذي ظـهـرعلي عـنـدمـا كـنـت أشـاهـد البعــض يخـرج حـزيـنا فـقـلـت في نـفسي هـؤلاء أضاعوا السنـة ومن الـطـبـيـعـي أن يـحـزنـوا أمـا أنـا فـهـي مـحـاولـتي الأولى ولـم أخـسـر شـيئـا ومـا هـي إلا مـحـاولـة فـإمـا وأمـا.

دخـلـت الـقـاعـة وجـدت وجـوهـا بـشـوشة تـحـيـيـنـي وتـطـلـب مـنـي الـجـلـوس.
بـعـد دقـائـق من الحـديـث الـعـام عـن المـانـيـا وكـيـف وجـدتهـا ولـمـاذا أخـتـرت الـدراسـة بـهـا سـئلت عـن الـفـتـرة الـزمـنـية الـتـي مـكثتها هـنـا وأيـن تـعـلـمـت اللغـة. أجـبـت عـلى اسألتـهـم بـهـدوء ولـكـن عـنـدمـا أبـلـغـتـهـم عـن الـفـتـرة الـقـصـيـرة رأيـت الـدهـشـة في وجـوه الـبـعـض والـنـظـرات المـتـبـادلة بينهم, هـنـا أخـرجـت وثيقـة السفــر الـمصـرية للأجـئـيـن الفـلسـطـيـنـيـن ووضـعـتهـا أمـامـهـم. نـظـروا اليها وابتسـم رئيٍس اللجـنـة وقـال أنـه واثـق سيحـسن لغـتـه في فـتـرة قصـيـرة وعـرفـت مـنـهـم أن مـا قدمـتـه مـن امـتحـانـات شـفـعـت لي بـدرجـة كـبـيـرة. ناولـنـي ورقـة كـتـب عليهـا اسمي ووضع إمضـائـه عليـهـا. صافـحـنـي وطـلـب مـنـي أن أذهـب إلى السكرتاريات بـعـد أن تـمـنـى لـي الـتـوفـيـق.
في اليوم التالي كنت أقـف من الصباح في الـطابـور وجاء دوري وأخـرجــت الورقـة والصـورة الشـمـسـيـة التـي كـنـت اصـطـحبـتـهـا مـعـي بـنـاء عـلى نصيـحة الإخـوة ومـا هـي إلا لـحـظـات حـتـى تسلمـت بـطـاقـة الجـامـعـة وهـكـذا أصبحت طالـبا مـنـتـظـمـا أجـلس بـيـن الـزمـلاء نـستمـع لأولى المـحـاضـرات.

» مـن أرشـيـف الـذكـريـات