تمتليء عيني بالصفاء و البراءة . لا أعرف القيد ولا يعرف القيد حينها طريقي . بداية فطرية يكسوها الجلال وبراءة الطفولة النقية . لا أعبيء بالجري ولا أحس بالتعب أقضي النهار كالطير أمرح ..العب في براح الدنيا المتاح لي مع حذر الأبوين وخوفهم علي . كنت إذا أحسست بالملل خرجت حيث الفضاء والحماد أتنقل فوق شرايين الماء التي تروي الزرع بعضا منها جف ماءه وبعضا منها مازال يحتفظ ببعض الماء أو مازال الماء يسري فيها لنروي ..حقلنا كاي حقل من الحقول . فأصنع لنفسي طريقا للهو واللعب بعيدا عن الأنظار و الأنداد من الأطفال .أمارس هوايتي المفضلة والتي اعشقها وأحبذها ... تعشق يداي العبث بالطين الزبد.. فأعجن فيه وأزبد حتى يصير متماسكا في يدي ؛ أصنع تمثالا لرجل لا أعرفه أو أقلد شكلا من الأشكال التي تجوب بخاطري 'أو أصنع مثالا لابي الهول أو لزعيما من زعماء مصر أصحاب الطرابيش كسعد زغلول أو مصطفى كامل او عرابي '''أقتل النهار في لهوي ولا أحس بالوقت ولا أشعر بالجوع ....يجلدني اصفرار الشمس قبل أن تغرب في مغربها ...أعود أدراجي مسرعا خوفا من الظلام وخوفا من أبي .. أخبيء ما صنعت في مخبأ لا يراه أحد بين ملابسي الداخلية 'لا يهمني أن تتسخ' كل ما يهمني أن لا أحدا يعرف من إخوتي ما أخبيه في ملابسي .. اغسل يدي ووجهي وازيل أي علامة أو أثرا حط على ملابسي حتى لا يعرفوني فآنال علقة ساخنة بالعصا من أبي وأحرم من الخروج ...في اليوم التالي أخرج انتاجي الطيني واضعه في الشمس ليجف وانتهز اللحظة التي تحمي امي فيها الفرن للخبيز.. اغافلها والقي بتماثيلي تمثالا بعد تمثال في العين المحمية وهي بجواري دون أن تحس بي وتراني حتى أقوم بحرق التماثيل ويتغير لونها إلى اللون الأحمر .. وأحمل الصبر بداخلي وانا أترقب انطفاء النار وتحولها إلى رماد في الفرن لأخرج تلك التماثيل منها حيث أخرج بها أمام زملائي وأقراني اتباهى أمامهم وهم مندهشون من صنيعي ..تاخذني النشوة حين أرى واحد منهم ينادي على الآخر وهو يقول له تعالى وانظر ما عمله وما صنعه بيده من الطين . فكانت السعادة تغمرني واجد واجتهد ؛ ففي كل يوم كنت أصنع شيئا جديدا . أذكر أنني آخذت أحد التماثيل الطينية المحروقة وصنعت له شعرا برأسه من شعر عنزة كانت عندنا وقد قمت بلصقه بالصمغ البلدي الذي كنت أحضره من أشجار السنط القريبة من منزلنا والتي تنمو بكثرة على ضفاف الترعة التي تجري على مقربة من منزلنا .. وقد صنعت له لحية كثة وحكت له جلبابا من قماش قديم وخرجت به إلى الشارع وكلما مر أمامي رجل أو أمراة أو طفل اتصنع الوقوف والاقتراب منه ...ليرى ما صنعت . ثم مر أمامي رجل له قيمة علمية في قريتي وتربطنا به صلة قرابه وكان من أصحاب الطرابيش ..فلما رٱني أهلل واقصده دنا مني وأخذ التمثال من يدي ..وراح ينظر إليه ويتعحب... ولفظ الجلالة لا يفارق فمه ولا يتركه وهو يسألني من أين لك هذا؟. قلت :إنه ملكي ... قال :يا كذاب من اعطاك هذا ؟.... قلت : والله يا عمي أنه ملكي وانا الذي عملته بيدي... كان في عينيه انبهار ولا يود أن يصدقني... فرحت أحلف وأقسم له ... فما منه إلا أن وضع يده في جيبه وأخرج قطعة نقود معدنية فئة الخمسة قروش فضية واعطاني إياها وأخذ التمثال مني .. :قال لي: انت تأخذ هذا لتشترى به حلوى وانا سوف ااخذ هذا . تمنعت في البداية وانا متردد ولكني وافقت خجلا وسرورا بالخمسة قروش ..وكلما أخذني ابي في صبيحة كل يوم عيد لنعايده نظرا لصلة القرابة بيننا أرى تمثالي قد وقف فوق رف خشبي في حجرة الإستقبال شامخا بشعره المعيزي المستعار ولحيته الكثه .. لم أستطع أن أصارح ابي وانا أنظر إليه متحسرا عليه ...ولم أصنع بعده أبدا ...
تمثال فقد أصابتني عين الحسد ولم أدري ..
بقلم الشاعر سيد يوسف مرسي