هذه القصّة مُهداة إلى روح عمّتي الحبيبة حلا سلامة رحمها الله، الآنسة التي ضحّت بِكُلّ غالٍ و نفيس لخدمة الله عزّ و جَلّ بالإيمان و الأعمال.
كُنتُ جالِسًا تحت شجرة تين في بُستان قد زُرعت فيه جميع أنواع الأزهار تقريبًا. وكان كُلّ صنف مزروعًا بطريقة منتظمة وغريبة؛ فمثلًا الورد الجوري الأحمر كان يملأ حيّزًا لدائرة ذات قُطر متكامِل، وبداخله دائرة أخرى لورد جوريّ أصفر، يليه ورد بنفسجيّ يُدعى فم السّمكة... إلخ، وكانت للورود التي تحتلّ دائرة مُعيّنة، رائحة تختلف عن الدّائرة التي تليها.
وفجأة لمحتُ سيّدة جالسة في وسط ذلك البُستان العجيب، كانت تزيّن رأس تلك الفتاة وردة جوريّة رائعة ذات ألوان مُختلفة، وكان حول تلك السيّدة ورد يُدعى شقائق النّعمان. كان سُكّان القرية قد تحدّثوا عنها كثيرًا؛ إذ كانت تتحلّى بالخصال الحميدة التي يندُر أن تتّصف بها أي فتاة في تلك القرية. كما كانت تربط عائلتينا وشائج الصّداقة والأخوّة المتينتين. كانت زينة هذه السّيدة الطّاهرة الإخلاص، والصّدق، والمُساعدة، يُتوّجها تاج الإيمان المُقترن بالأعمال، ويُكلّل رأسَها غار المحبّة الذّهبيّ الفوّاح المُسترسل على ضفاف الأبديّة. وعلى النّقيض من باقي السيّدات، فهي لم تعرف مساحيق التّجميل نهائيًّا، لكنّها كانت تشكو من ضعف في النّظر، فكانت تضع النّظارات النّسائيّة ذات الطّابع الكلاسيكيّ القديم، لكن تقاسيم وجهها الجميل كان الغالب دائمًا. وكثيرًا ما كانت تعطي الفقراء في الخفاء عِلمًا بأنّها كانت فقيرة ماديًّا.
وفيما كنتُ أتأمّل ذلك البُستان العجيب، لفت انتباهي اضطراب طرأ على تلك الفتاة، وبدت وكأنّها تبحَث عن شيء ما، فوقفَت وراحت تردّد قائلة: من سرق حقيبتي، سامح الله من فعلها، وسالت الدّموع على خديها كانسكاب قطرات النّدى البلّوريّة على جنبات أوراق وردة من نور. فشعرتُ بتوتّر وحُزن عميقَين.
فما كان منّي إلّا أن انبَطحتُ بين الزّهور حتّى لا يراني أحد من المارّة فيَشُكّ بي. لكن خطواتُها قادتها نحوي. فحبوت بكلّ قوّتي مبتعدًا عن ذلك المكان. وهكذا استطعتُ الوصول إلى منزلي.
وحدَث بعد يومين أن طرق باب منزلي أحد أفراد مخفر الشّرطة. وأفهموني بأنه قد رآني في ذلك اليوم عدّة أشخاص مُهرولًا من البُستان نحو بيتي، وأنه بدت عليّ علامات التوتر الشّديد، وقد وصفوا للمُفَتّش الملابس التي كُنت أرتديها. وبناءً على ذلك تأكّد رجال الشّرطة بأنّي الشّخص المَطلوب. وهكذا وبعد أخذ وردّ، وسينٍ وجيم، قرّر رئيس المخفر أن أدفع مبلغ أربعة آلاف دولار أمريكي في مُدة أقصاها أسبوع، وإلا فالسّجن لمدة سنة ونصف سيكون من نصيبي. أصدر رئيس قسم الشّرطة هذا القرار؛ لأنّه لم يقتنع بكلامي إذ قلتُ له بأنني كنت في نزهة دون أن آخذ موعدًا من أحد على الإطلاق. وقد قال لي بأن أفراد الشّرطة قد مسحوا المنطقة تمامًا، الأمر الذي يؤكّد سرقة الحقيبة. لكنّ حديثي كان كما مِن طرف واحدٍ، إذ جعلني أتحدّث كمن يتحدّث إلى حائط، إذ لم تكُن إجاباته تجري في سياق حديثنا، فتارة لا يجيب وطورًا يلتفت ويتحدّث إلى عناصر الشّرطة مُغيّرًا مجرى الحديث. الأمر الذي سبّب لي إهانةً قصوى، فما كان منّي إلّا المُوافقة على هذا العرْض، فسيّدة عظيمة كهذه تستحقّ أعظم تقدير وتضحية. لَقد كُنتُ مُستعِدًّا أن أضحي بنفسي لأجلها. فحياة الإنسان ليست مرهونة بقرار كيفيّ من جانب واحد و دون مراجعة بنود الأحكام، فيُهان إذ ذاك أصدقاء و عائلات بأَسْرِها.
وحدث بعد أربعة أيّام من الصّلاة، والتّخطيط، والبحث عن الحقيبة أن توصّلت إلى نتيجة وحلّ عجيبين.
وهكذا توجّهت إلى مخفر الشّرطة، طالبًا منهم مرافقتي إلى الحَقل؛ لأدلّهم على موقع الحقيبة. ولدى وصولي إلى هناك فوجئوا برفعي خُلدًا أمامهم قائلًا: إنّ هذا الخُلد سيدلّكم على موقع الحقيبة فورًا. وفي الحال جعلوا يضحكون قائلين: إن لم تجدهُ ستدفع ثمن إضاعتك أربعة ملايين ليرة زيادة. فقلتُ: اتفقنا، سأدفع عشرة آلاف زيادة. فازداد ضحكهم، وسخريتهم. فأفلت الخلد فأسرع عاديًا نحو الجُحر، فتوجّهت إلى مكان الخُلد طالبًا منهم أن يتبعوني، ففعلوا. فأدخلتُ يدي في التّراب، وفي تلك اللحظة شاهدوا الحقيبة كأنّها تتكوّن بين يديّ فأصيبوا بالذّهول التّام. تُرى،كيف عَلِمَ الخُلد موقع الحقيبة؟
وراحوا يتأملون في الحقيبة، غير مصدّقين ما يرون أمّا رجل التّحرّي وأعوانه فعادوا أدراجهم وهم يلعنون ذلك الخُلد الذي تسبّب بخسارتهم لصفقة المال الكبيرة تلك. أمّا عن تلك السيّدة فقد جعلت أشرح لها عن كيفيّة عثوري على الحقيبة. فلدى خروجي من المخفر الذي كنت قد استُدعيتُ إليه في ذلك اليوم، قمتُ بالتّوجّه إلى منزلي. وحدث أن انتابني نعاس شديد، فذهبتُ للإستلقاء على السّرير، ورحتُ أفكّر بالوسيلة التي تمكنني من نيل ذلك المبلَغ. مرَّت السّاعة تلو الأخرى، وكانت وطأة الأرق تزيد بثقلها عَلَيّ في كُلّ ثانية، فقرّرت الذّهاب إلى ذلك الحقل علّي أعثُر على تلك الحقيبة. كان نور القمر الباهت ينير الطّريق، فضلًا عن الخنافس المُضيئة التي ساعدتني كثيرًا والحمد لله. وهكذا جعلتُ أبحث بين الأزهار والأعشاب حتّى الثّالثة فجرًا، لكن دون جدوى. وشعرتُ بجوع شديد، وصلّيت لله عزّ وجلّ؛ لكي أعثر على أي نبات يُؤكل في هذا البُستان، وفجأة، ظهر أمامي حيوان صغير فحمدتُ الله على ذلك، لكنّه كان أسرع منّي، وراح يعدو بكلّ طاقتِه، لكني تمكنت من اللحاق به بعد كرّ وفرّ عظيمين. لكنّه ما لبث أن دخل في جحر للمناجذ. فشعرت بضيق شديد، وجعلتُ أحفر بيديّ خمس دقائق، وفجأة كان ذلك الخُلد بين يديّ تحت التّراب. ولكن، يا للهول، فما أن أخرجت يدي حتّى شاهدت حقيبة بين يديّ. إنها تلك الحقيبة الضّائعة. فشكرت الله على وجود ذلك الخُلد الذي دلّني على الحقيبة. فاستنتجتُ على الفور بأن الخُلد، إذ كان جائعًا، قام بجرّ تلك الحقيبة ظنًّا منهُ بأنّ فيها طعامًا. وحدث في ذلك اليوم أن توجّهت فورًا إلى منزلي آخذًا معي ذلك الخُلد، ووضعتُه في قفص، وأطعمتُه. وحدث في اليوم التّالي أن أخبرتُ قسم المباحث بأنّي سأجد الحقيبة، وطلبت منهُم أن يرافقوني إلى الحقل؛ لأن عملية العثور على الحقيبة يحتاج إلى مساعدة وعلى إثبات أنّي بريء. وكما تعلمين قاموا بالاتّصال بكِ للحضور. وطلبتُ منهم أن ينتظروني إذ سأتأخّر، وما ذلك إلّا لإحضار الخلد. وعند عودتي إلى منزلي، قمتُ بوضع الحقيبة تحت مِعطفي، وحملت الخلد في يدي متوجّهًا إلى ذلك البُستان. وهكذا أفْلَتّ الخلد بجانب جحره في وسط الحقل وَدخل فيه. فأخرجت الحقيبة بسرعة وَبِخفّة دون مُلاحظة أحد؛ ليبدو الأمر كأنّي أخرجتها من الجُحر مُبعدًا التّهمة عنّي. فجُنّ جنونهم لهول الصّدمة. تُرى،كيف علم الخلد موقع الحقيبة؟
وجعلت السيّدة تجهش بالبُكاء، قائلة لي: يا بُنيّ، صدّقني إنّي مُسامحة إيّاك مهما كانت فِعلتك كبيرة، فعيونك الصّادقة لا يُمكن أن تكذب، وتأكّد بأن ما تكنّه لي من المحبّة، أكنّها لك أضعافًا مُضاعفة. أهو إلهام من الله؟ لستُ أعلم. وتعانقا بحرارة، وكانت هذه السيّدة تُحاول جاهدة إقناع رئيس مخفر الشّرطة بالعدول عن تغريم هذا الفتى الفقير الحَسَن الصّيت مبلغًا عظيمًا كهذا. وقد احتفظت بذلك الخلد في قفص، وجعلت تطعمه وتسقيه الحليب بيدها بملعقة خاصّة.
كانت تقول لي: قلبك طاهر، تنظر إلى أعمال النّاس من خلال عينيك البريئتين، مُنتظرًا أن يعاملوك بالمثل فكلّ وعاء ينضح بما فيه. لكن صدّقني إنّك ستجد الحقيقة إن تابَعَتْها عيناك، أيّها الصّديق العزيز.
أمّا تلك السيّدة المُحترمة فجعلت تُصلّي باستمرار شاكرة الله عزّ وجلّ لانتصار الحق وزهوق الباطل.
تأليف:يوسف قبلان سلامة
في: 27-2-2011
نابَيْه،المتن الشّماليّ، لُبنان