الجُزء الثّاني
كانت مجريات تلك الحادِثة المشؤومة ملازمة إيّاه ملازمة السّوار بالمِعصم، فلم يستطع النوم لِمدة ثلاثة أيام بسبب الحالة النّفسيّة الصّعبة والغريبة التي انتابته. أما الأغرب فهو نقش الخطوط الهندسيّة لِنجوم السّماء كالنّار في ذاكرته؛ فكُلّما أغمض عينيه كان يراها.
راح يحاول نسيانها فلم يستطيع. أمّا الأغرب من ذلك فهو رؤيته لذلك الوحش في نومه في كل يوم، وهو يظهر له عن بُعد حامِلاً سيفاً أحمر، و عيناه تُشِع بِلون بُرتقالي وهو يضحك ضحكات هستيريّة، ثم تارة يختفي وطوراً يظهر في عِدّة اتّجاهات، ثم يضحك، ولِضحكه صدى غريباً. فكان يَستيقظ يوميّاً كُل ثلاث ساعات. كان يُفَكّر بزوجته الزّانية التي سمع أنّها خرجت سِرّاً من الماء عائدة إلى نيويورك.
لم يَبُح لأحد عمّا كان يُشاهِدهُ، الأمر الذي سبب له ضغطاً نفسيّاً أعظم. فقد خاف أن تحدُث كارِثة نتيجة إفشائه السّر. ثم تابع حديثه قائلاً:
كنت و ما زلت على حب كبير بالتّعَلّم، فقد كنت آمَل أن أجد اللوحة المميّزة التي ستضعني في مصاف أعظم الفَنّانين كليوناردو دا فينشي، وبوشيه، وغيرهم. لكن الحظ لم يحالِفني. لكني أعتقِد بأن هذه اللوحة تحمل معنى عميقاً مخفيّاً خلق الخطوط الهندسيّة العجيبة التي رسمتها. ولكن كيف لي أن أبعثها إلى الأكاديميّة العُليا لِيتم الإعتِراف بِها.
تحدّثت مع نزلاء الفندق بمواضيع كثيرة، لا سيما عن الجمال الرّيفي لِمدينة نيويورك ونهر الهدسون الذي يمر فيها، ذلك النّهر الذي أحب مشاهدته، والذي خلّده الكاتِب الأمريكيّ الكبير واشنطن إرفينغ. لقد أثار اسم الكاتِب موجة من التّرحيب الكبير من قِبَل جُلسائي. و بعد ذلك صعدت إلى غرفتي وقمت بإعداد كوب من الشّاي، استلقيت على سريري، و جعلت أتأمّل الصّورة العجيبة مُجَدّداً، فاتِحاً النافِذة، و لكن، و لِسوء الأقدار، ظهر ذلك المسخ مُجَدّدا دون سابِق إنذار. قرصت ذراعي لأتأكّد من أني بِكامِل وعيي، فتأكّد لي ذلك. كان ذلك الشيطان يُصدر أصواتاً كفحيح أضخم أفعى يمكن أن توجد. أما الأمر الأغرب فهو حركة الغيوم و الرياح و الأمطار (في الصّورة) كانت تتحرّك وِفقاً لإتّجاه عينيه. كان الوحش يضبِط، أو يتحكّم بالقوّة المندَفِعة، فتارة يقويها، و طوراً يُخَفّفها أو يُفلِتها؛ تماماً كالمياه المندَفِعة من خرطوم المياه. إنّه مخلوق غريب دخل عالم الأرض من عالم آخر مُحدِثاً فيها تأثيراً غريباً. و فجأة تكوّن في يده السيف ذو أسنان حادّة، و تُرسٌ شعاعي، ثم رأيت ثيابا غريبة تريد إلباسه و كانت تقتَرِب شيئاً فشيئاً من جسمه. كان يُحَدّق نحوي بنظرات ناريّة قائلاً: لا. ترى ما الذي قصده بهذه الكلِمة. و في الحال شعرت بِقوّة ما تحل عليّ و بِصوت صفير حاد في أذني. لِتتمَثّل لي تلك الظّواهِر الخارِقة أمامي لكن دون مُشاهدتها بالعين المُجَرّدة؛ عرفت أن سيّاله قد لَبِسني، و بأنه قَبِل التّحدّي.
عزيز القارِئ: هل تظُن أن للشّر سلطان على البشر، لتحريكهم كما يشاء هو؟ أؤكّد لك بالنّفي؛ فكل شيء مؤقّت، وإن حدث، يحصل ضمن فترة زمنيّة محدودة، ليتلاشى بعدها إلى الأبد. وتذكّر قول السيّد المسيح له المجد: من يصبِر لى المنتهى فهذا يَخلُص. إذَنْ لِنتابِع...
تحوّلت حياتي جحيماً، مُرتَقِباً فِكاك أسري من هذا الوحش المُرعِب الذي أصبح أنا. فكان يظهر لي كل ثلاث ساعات في النوم، لكنه لم يمكّن مني بالرّغم من الخوف الذي كان يَعْتريني.
جعلت أقرأ الكتاب المُقَدّس ولا سيما سِفر الرّؤيا. حتّى توقّفت عيناي عند رقم الوحش 666. لقد تأكّد لي بأننا في الأيّام الأخيرة، فوجود قوّة رهيبة كهذه على الأرض، تطلق حِممها الجحيميّة لَهي خير دليل على ضربها يوماً ما بيد من حديد.
لكن الأمر لن يُحَل بالقوّة، فأنا لا أؤمِن بذلك، فالسّلام حقيقة سماويّة شِئنا ذلك أم أبَيْنا. و فجأة شعرت بأني أغرَق، أغرق في اليابِسة بِبِطئ، في هوّة الموتّ! شعرت بأني سأنزل إلى درك جُهنّمي شبيه بِعالمنا الأرضي حيث سيُسيطر عَلَيّ ذلك العفريت إلى الأبد فيظهر لي في كل لحظة مُجرياً خوارِق ليجعلني منظراُ و لعبة أمام الخليقة، اختل توازنها النّفسي ليتحكم بِها كاللعبة التي تحركها الخيطان. شعرت بأنني أنزل بهدوؤ، فجعلت أرَدّد اسم الله عز وجل شاعِراً بتأنيب ضميريّ رهيب. فالموازين الطبيعيّة اختَلّت، وها المياه تجرِف الشّوارِع، والصّواعِق تضرب المدن و النّاس بوحشيّة لا تُجارى. وفي الحال شاهدت هذه الصّواعِق تستحيل شهباً. كنت في هذه الأثناء قد غرقت إلى ركبتَيّ. ورحت أحلل عدد الوحش المذكور، وإليكم ماذا وجدت.
إن الرسالات السّماويّة التي جاء بِها الأنبياء عبر الأزمِنة هي واحِدة، لكن بالمقابِل، كان الشّر يعمل على التمرّد وعصيان الأوامِر الإلهيّة، فخلق عوالِم معاكسة لها و قَلّدها بِحسب العِلم الذي اختَزَنَه. و حاول أن يعكِس كل ما يجيء على لسان الأنبياء من خوارِق وأعمال. ولا سيما بتأليه نفسه بالتمَرّد، جاعِلا نفسه البِداية و النّهاية. إلى أن وصل الأمر إلى تناول الفِكر الفَلسَفي للثّالوث، الذي استنتجه بعض فلاسِفة رعايا الكنائس ؛ وهكذا نستطيع أن نقول بأنه كما يوجد هذا الثالوث عند بعض (من يؤمنون بالله بإخلاص)، كذلك يوجد ثالوث لِبعض المدّعين أن أعمالهم حسنة، لكن أعمالهم بعيدة عن وصايا الله عز و جَلّ. فكما يقول ذلك الفِكر الفلسفي: الله عز و جل متجسّد بالكامِل في كًل أقنوم، وأنها هي الله وحده. إذن يكون ثلاثة في واحد في الآب، و ثلاثة في واحد في الإبن، و ثلاثة في واحد في الرّوح القًدُس. إذَن ثلاثة و ثلاثة و ثلاثة يقابلهم ثلاثة و ثلاثة و ثلاثة في عالَم الشّر؛ لأرواح قامت بتقليد الفِكر الفلسفي محوّلة إيّاه للشّر. و يكون المجموع في كل جِهة 666.
أود أن ألفِت انتباه القارئ الكريم بأنه أثناء تحليل بطل القِصّة لِعدد الوحش، حدث أن انقسم البرق إلى كرتين بَلّوريّتين عند قطبيّ الأرض. و بينما كان يحلل هتف قائلا وجدت الحل إنه كامِن في ذلك السيّال الفِكري و سوف يبيد. و فجأة غطّت قُبّة كهربائيّة الأرض. و حدث أن اختَل توازن كل شيء بحيث بِتّ أرى ذرّات نوويّة تقفز كالجراد، و كانت تلسع البشر لسعات نوويّة. حينئذ تمنّى البشر الموت، لكنه أشاح بِجهه عنهم. كانت الذرات تنطلِق كالشّهُب في الفضاء.
كانت القبّة و الأرض قد تحوّلتا لكرة ناريّة. تراءت لي الشخصيّات السّت من السّماء تريد تشجيعي. لكن أشباحاً شريرة ظهرت بالمقابِل واضعة أيديها حول عنقي لِخَنْقي. فتجمّعت الأفكار في عقلي، و شعرت بِضغط نفسيّ رهيب لا يوصَف.
تذكّرت التيجان العشر الموجودة على رأس الوحش المذكور في سِفر الرّؤيا. أيضاً عند تحليلها تكون 3+3+3 أي تسعة أمّا الواحِد الإضافي فهو الذي يجمعها فيكون العدد عشرة. ومجموع العشرة و العشرة الأخرى على كِلا جانبي الخير و الشّر مُتساو.
يا إلهي! شعرت بأنني أردد العبارة المقدّسة: بحق الله و النّبي الحبيب الهادي و الشّخصيّات السّت و السيّال العشرين.
فقدت وعيي دون أن أشعر بألم الموت. استيقظت لأجد نفسي في جَنّة لم يخلُق الله عز و جل واحِدة مثلها. و كان هناك وجه أثيريّ لِرجل جبّار مُقتَدِر يظهر في كبد السّماء المُشرِقة. كنت راكِعاً و مُتّكِئاً على سيف ناريّ و سمعت صوتاً يقول كل شيء قد تم.
كان السيف منغرِساً في لوح حجري كان يُمَثّل صورة تلك العاهِرة و عشيقها اللعين، وقد أصبحا من الماضي الآفِل.
وقد لاحظت أن ذلك الحلم و تلك الظواهِر ما عادَت لِتراودني قط لأن الله عز و جل حمل عنّا جميع عذاباتِنا الرّهيبة، مُلقاً إيّاها في جُهَنّم حيث ينال الأشرار المصير نفسه.
وللحال نهضت، ورحت أجول في أرجاء هذه الجنّة حيث التحقت بِموكب رفاقي المنتصرين.
تَمَّت بِعَونِ الله تعالى
ملاحظة هامّة جِداً: إن الأحداث الوارِدة في القِصّة هي من محض الخيال و لا تَمُتّ للحقيقة بصِلَة، كما أنه لا عِلاقة البَتّة لِفَلسَفَةِ اللاّهوت بالعقيدة الدّاهشيّة من أي ناحية كانت.