الصدقُ مُنْجٍ
براءة كعب بن مالك
أحسّ كعبُ عرقَ الخجلِ يتفصَّدُ من كل جسمه ؛ إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، ولكنه كان قد تخلف عنه في غزوة بدر ، وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدًا تخلف عنها ، وذلك أن رسول الله (ص) إنما خرج يريد عير قريش حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد، ولقد شهد مع رسول الله (ص) العقبة ، ودافع عنه يوم أحد دفاع المستميت ؛ وكان له كظله عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، وتأهب المسلمون لغزوة تبوك ، ولم يكن قط أقوى ولا أيسر منه حين تخلف عنه في تلك الغزوة ، وما اجتمعت له راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة تبوك فغزاها رسول الله (ص) في حرٍّ شديد ؛ الشمس حامية ترسل لهيبا ، والعرق ينبثق من الأجسام ، وشنن الماء ترفع إلى الأفواه فتطفئ الظمأ وقتا قصيرا ثم سرعان ما يعود إلى الحلوق الجفاف ، وتهب الرياح ساخنة تشوي الوجوه ، والأرض كأتون ملتهب تلسع الأقدام ، واستقبل سفرا بعيدا ، وغزو عدد كثير فجلَّى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته ،وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله (ص) كثيرٌ لا يُدَوِّنُهم حافظ ، فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله (ص) تلك الغزوة حين طابت الثمار ، وأحبت الظلال ، فتجهز رسول الله (ص) وتجهز المسلمون معه .
وجعل كعب يغدو ليتجهز معهم فيرجع ولم يقضِ حاجته فيقول في نفسه : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل كذلك يتمادى به حتى شمَّر بالناس الجِدُّ فأصبح رسول الله والمسلمون غادون معه ، ولم يقضِ كعب من جهازه شيئا ، فقال : أتجهز بعده بيوم ، أو يومين ، ثم ألحق بهم ، فغدا بعد أن فصلوا ليتجهز فرجع ولم يقض شيئا ، ثم غدا فرجع ولم يقض شيئا ، ولم يزل ذلك يتمادى به حتى أسرعوا ، وتفرط الغزو ،فهَمَّ أن يرتحل فيدركهم ــ وليته فعل ــ فلم يفعل ، وجعل إذا خرج في الناس بعد خروج رسول الله (ص) فطاف فيهم يحزنه أنه لا يرى إلا رجلا مطعونا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكره رسول الله (ص) حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟
فقال رجلٌ من بني سلمة :يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه
فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا
فسكت رسول الله (ص) وبلغ كعب بن مالك أن رسول الله (ص) قد توجه قافلا من تبوك، فحضره حزنُهُ فجعل يتذكر الكذب ويقول :
ــ بماذا أخرج من سخطة رسول الله (ص) غدا ؟!
وراح يستعين على ذلك كل ذي رأي من أهله ،فلما قيل إن رسول الله (ص) قد أشرف قادما ، ذهب عن كعب الباطل ، وعرف أنه لا ينجو منه إلا بالصدق فأجمع أمره أن يصدقه، وقدم رسول الله (ص) وجلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم علانيتهم وإيمانهم ويستغفر لهم ، ويكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى .
وجاء كعب بن مالك فسلم عليه فتبسم رسول الله (ص) تبسم المغضب ثم قال له :
ــ تعالى ... فجاءه يمشي حتى جلس بين يديه فقال له : ما خلَّفكَ ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
ــ إني يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عني وليوشكنَّ اللهُ أن يُسْخِطُكَ عليَّ ، ولئن حدثتك حديثا صدقا تجدُ عليّ فيه إني لأرجو عقباي من الله فيه ، لا والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، فقال رسول الله (ص) : أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضي الله فيك.
فقام وثار معه رجال من بني سلمة قومه، فاتبعوه فقالوا له: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله (ص) بما اعتذر به المخلفون وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (ص) لك ، فوالله ما زالوا به حتى أراد أن يرجع إلى رسول الله (ص) فيكذب نفسه ؛ثم قال لهم:
ــ هل لقي هذا أحدٌ غيري؟!
ــ نعم رجلان قالا مقالتكَ وقيل لهما مثل ما قيل لك
قال: منْ هما؟
ــ رجلان مرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أبي أمية الواقفي
ذكروا له رجلين صالحين فيهما أٍسوة ، فصمت حين ذكروهما له ، وقال رسول الله (ص) لأصحابه : لا تكلموا رجلا منهم ، ولا تجالسوهم حتى آذن لكم
فأعرض عنهم رسول الله(ص) إنه حرمان عام ، وألمٌ مُمْضٍ وعذاب نفسي ، فقد حرمت على الثلاثة الراحة النفسية ، فاجتنبهم الناس وتغيروا لهم حتى تنكرت لهم أنفسهم والأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها.
خمسون ليلة مضتْ والرجال الثلاثة يقاسون الإعراض فاستكان مرارة بن الربيع وهلال وقعدا في بيتهما ، وأما كعبُ بن مالك فكان أشبَّ القوم وأجلدهم ، فكان يخرج ويشهد الصلوات مع المسلمين ، ويطوف بالأسواق ولا يكلمه أحدٌ ، ويأتي رسول الله (ص) فيسلم عليه ، وهو في مجلسه بعد الصلاة فيقول كعب في نفسه : هلْ حرَّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا ؟!!
ثم يصلي قريبا منه فيسارقه النظر ، فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه وإذا التفت نحوه أعرض عنه ، حتى إذا طال ذلك عليه من جفوة المسلمين مشى حتى تسوَّر جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عم له ، وأحبَّ الناس عليه فسلم عليه ، فوالله ما ردَّ عليه السلام!! فقال :
يا أبا قتادة أنشدك الله والرحم هل تعلم أني أحب الله ورسوله (ص) ؟ ( ثلاث مرات ) وهو ساكت ثم أجابه : الله ورسوله أعلم
ففاضت عينا كعب بن مالك ووثب فتسور الحائط ثم غدا إلى السوق ، فبينا هو يمشي بالسوق إذا نبطيٌّ يسأل عنه من نبط الشام ممن قدمَ بالقمح يبيعه بالمدينة يقول : من يدلُّ على كعب بن مالك ؟ ، فجعل الناس يشيرون له إليه حتى جاءه فدفع إليه كتابا من ملك غسَّان ؛فإذا فيه (( أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ فالحقْ بنا نواسِكَ ))
قال كعب حين قرأها : وهذا من البلاء أيضا ، قد بلغ بي ما قد وقعتُ فيه أن طَمّعَ فيّ رجلٌ من أهلِ الشرك ، فعمد كعب بالكتاب إلى تنور فأحرقه ، فأقام الرجال الثلاثة على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله (ص) يأتي كعبا فقال :إن رسول الله (ص) يأمركَ أن تعتزل امرأتك!!
ــ أطلقها أم ماذا ؟!
ــ لا ، بل تعتزلها ولا تقربها .
وأرسل إلى صاحبيه بمثل ذلك ، فقال كعب لامرأته : الحقي بأهلكِ فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاضٍ
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله إن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له . أفتكره أن أخدمهُ ؟!
ــ لا ، ولكن لا يقربَنَّكِ
ــ والله يا رسول الله ما به من حركة إليّ ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، وقد تخوفتُ على بصره ، فقال لكعب بعضُ أهله :
ــ لو استأذنت رسول الله (ص) لامرأتك ، فقد إذن لامرأة هلال أن تخدمه
ــ والله ما استأذنت فيها ، ما أدري ما يقول رسول الله (ص) لي في ذلك إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب
فلبثوا بعد ذلك عشر ليالٍ فكمل لهم خمسون ليلة من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامهم ، ثم صلى كعب الصبح ؛ صبح الخمسين خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتهم قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وضاقت عليه نفسه ، وقد كان ابتنى خيمة في ظهر (سلع ؛ جبل بالمدينة) فكان يكون إذ سمع صوت صارخ أوفى على ظهر (سلع) يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر ، فخر كعب ساجدا ، وعرف أن جاء الفرج
آذن رسول الله (ص) الناس بتوبة الله على الثلاثة حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشرونهم ، وركض رجل إليه فرسا ، وسعى ساعٍ من أسلم حتى أوفي على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءه الذي سمع صوته يبشره نزع ثوبيه فكساهما إياه بشارة ، والله ما يملك يومئذ غيرهما ، وانطلق أناس نحو
صاحبيه مبشرين ، واستعار كعب ثوبين فلبسهما ثم انطلق يتييم رسول الله (ص) وتلقاه الناس يبشرونه بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك!!
حتى دخل المسجد ورسول الله (ص) جالس وحوله صحابته فقام إليه طلحة بن عبيد الله فحياهُ وهنأهُ ووالله ما قام إليه من المهاجرين غيره ، فلما سلم على
رسول الله (ص) قال له ووجهه يبرق من السرور : أبشرْ بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك
ــ أمنْ عندك يا رسول الله أم من الله ؟!
كان رسول الله إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، قال وقد أشرق وجهه : بل من عند الله
فلما جلس كعب بين يديه وقد غمره البشر قال : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله عز وجل أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله.
ــ أمسِكْ عليكَ بعض مالكَ فهو خير لك
ــ إني ممسك بسهمي الذي في خيبر يا رسول الله ، إن الله نجاني بالصدق ، وإن من توبتي إلى الله ألا أحدث إلا صدقا ما حييت .
وأنزل الله تعالى قوله سورة التوبة : (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)