المحور الأول : المؤاخاة بين اللفظ والمعنى في النصوص الأدبية
1-التلاؤم بين اللفظ والمعنى في النص :
تقييم النص الأدبي عند المحكمين من قدماء النقاد العرب في أسواق التباري
بين الشعراء والأدباء مثل ( سوق عكاظ وذي المجنة وغيرهما )
عرف فيها العرب أن لكل موضوع ألفاظه المعينة التي توحي بمعناه فللمدح ألفاظه , وللهجاء ألفاظ أخرى .
من أجل هذا انتقد النقاد ابن الرومي حينما هجا عجوزا شمطاء بقوله في إحدى قصائده :
وشعرها من فضةٍ = وثغرها منْ ذهب
وقالوا إنه : فاته الصواب عندما استخدم ( الفضة ) ليدل بها على البياض,وذلك
لأن لفظ ( الفضة ) و ( الذهب ) مما يوحيان للإنسان بالسرور والفرح فهو لم ينجح في تصوير الهجاء هنا .
كذلك انتقدوا قول القائل وهو يمدح الخليفة :
يا أبا جعفرٍ جعلتُ فداك = فاق حسن الوجوه حسن قفاك
وقال النقاد : إن اختيار كلمة ( القفا ) جعلت بيته منتقدا لأن الاستماع إليها يوحي بأشياء لا ترضاها النفوس . كما قرأنا في قول القائل :
وكأنما صفعت قفاه مرة = وأحس ثانية لهل فتجمعا
وكذلك انتقد قول القائل في المدح :
مازال يهزي بالمكارم دائبا = حتى ظننا أنه محموم
فإيحاء كلمة ( يهزي) تفيد أن الشاعر يتكلم بدون إحساس.
وعلينا أن نقف على أهداف الأديب في كلماته قبل أن نحكم على ألفاظه وتلاؤمها
مع المعاني التي يذكرها فالنقاد يعيبون القائل :
ولّى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ حبَّ النجاة وخلفه الدنْيلُ
و(الدنيل) معناها :الثعبان وقد استعملها الشاعر معجبا بها
ومن التلاؤم الدقيق في استخدام الألفاظ اختيار صيغ تدل على معنى واحد في الأصل , ولكن بعضها يزيد حرفا أو حروفا
على البعض الآخر لأن في زيادة المبنى زيادة في المعنى ,كالفرق بين استخدام اسم الفاعل وصيغة المبالغة .
أو استخدام ( أعشب ) و(اعشوشب) فالأولى في قول الكاتب : أعشبت الأرض : يدل على أن عشبا قد نبت في الأرض
أما إذا قال : اعشوشبت الأرض , فيريد التعبير عن كثرة العشب .
من هنا نعلم أن اللغة دقيقة في معناها , والأديب عليه أن يختار في دقة ما يدل على معناه , وذلك يتطلب منه أن يكون دارسا واسع الاطلاع في اللغة العربية لأنها تعينه على اختيار اللفظة المناسبة .
وعليه أن يلائم بين اللفظ واللفظ : أي يناسب بين اللفظين في الوزن والتنوين والإفراد أو الجمع بحيث تتناسب موسيقاهما
كما قال المتنبي مثلا في مثل ذلك :
وقد صارت الأجفان قرحًا من البكا = وصار بهارًا في الخدود الشقائق
فلقد أراد المتنبي أن يعقد صلة موسيقية بين ( قرحى وبهارا ) من ناحية التنوين ,والموسيقا وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الأديب للتأثير في نفوس السامعين .
لذا عاب النقاد قول الشاعر :
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة = يثني عليها السهل والأوعار
حيث أتى الشاعر ب( الأوعار ) جمعا , و ( السهل ) مفردا , وكان عليه أن يناسب بين ألفاظه .
وكذلك مثل عيب الشاعر الآخر في قوله :
ومالك فاعلمن فيها مقام = إذا استكملت آجالا ورزقا
فالمناسب أن يقول : ( أجلا ورزقا ) أو يجمع فيقول : ( الأرزاق لا الآجال )
وإذا لاءم الشاعر بين ألفاظه فلا ينبغي أن يكون ذلك تكلفا بل ينبغي أن يكون طبيعيا يسترسل فيه الأديب بطبيعته
والمثل الأعلى أن يكون مرتجلا على البديهة .
استمع إلى قول الناقد ( ابن قتيبة ) إن من الشعراء من يجري على طبيعته ومنهم من يكون عبدا لشعره يتكلفه تكلفا ويتعب نفسه في إعداده كزهير والحطيئة وقد سماهم عبيد الشعر )
ولو تتبعنا هذا المنطق وطبقناه على كل الشعراء لأخرجنا جل الشعراء من دائرة سلامة التلاؤم بين ألفاظهم لأن المفروض
أن يكون للشاعر جهده الذي يبذله قبل أن يخرج شعره للناس .
والصواب أن الأسلوب الطبيعي هو الذي يريد صاحبه أن ينقل ما بنفسه من معنى أو عاطفة إلى القاريء أو السامع
وهذا لايمنع أن يعود الشاعر إلى النص ليقومه ويغير ويبدل ولا يمنع من أن يأتي بعض المحسنات البديعية غير متكلفة
أما النص المصنوع فهو الذي يعود فيه صاحبه إليه ليضع بعض المحسنات البديعية كما كان يفعل البحتري بغير إكثار فيها
وسماه النقاد شاعر الصنعة , وعندما تزيد هذه المحسنات تؤدي إلى غموض المعنى بل إلى انغلاقه أحيانا كما فعل أبوتمام
الذي أغرم بالمحسنات وتبعه أحيانا القاضي الفاضل .
يتبع( بقية الدراسة )