موضوع: زفاف الرحيل/ قصة بقلمي الخميس 15 فبراير 2018, 8:17 pm
اصطحبني الفجر إلى الوضوء ، وعلى وقع حذاء تتبعت الأثر ، بلسان صامت و آذان مترصدة أتقصى مصدر الوقع ، رويدا..رويدا وصلت إلى النافذة وجلت بناظري إلى الحارة أتفرسها بيتا بيتا. كان الظلام دامسا يعانقُ برودة شديدة َ َ، وهواء متجمدايقارعُ الملامسة...نظرت ُ هنا ،نظرت هناك ..وإذا بشبح ِ ِيستوقف ُ الرؤيا..يا إلاهي ما هذا ؟ ...بدأت الخطى في خفوت تتقدم وعيناي تتفرّس في خوفِِ ِ وتتطلع .. اقترب الشبح من باب الجار "عمي محمود " . ارتابني الفزع ، من عساه يكون ؟ لماذ ا في هذه الساعةِ بالضبط ؟ ، إن عمي محموديعيش وحيدا مع ابنته " رقية " التي سخرت شبابها لخدمة أبيها العجوز وأمها المريضة ، سنون طوال وهي تلازم الفراش أفناها المرض وتفننت الأوجاع في هضم قواها وذهبت بها بعيدا إلى رحم الآلام التي لا تبارحها ، وإلى الحاجة التي تمنعها من متابعة الأطباء والتخفيف بالأدوية . كان ساعتها عمي محمود- الذي يساعد الأسرة بمعاش زهيد افتكه منذ سنين التعب والشقاء - يتألم بين أقسام البوليس بين الحين والآخر تحت وطأة المساءلة:أين ابنك؟ ،هل يزوركم ؟، ستدفعون الثمن ،وغيرها من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا ... كان عمي محمود يعتقد أنه سيحضى بوسام التكريم ، والتشريف وهو الذي كان في يوم ما يعرٌج إلى الجبال حاملا المؤونة للثوار والرسائل والأخباروعندما يعود يشارك في توزيع البيانات ووثائق الثورة التحريرية ، كان يتعرض لضغوطات فرنسا ، تارة يزج به في السجن ، وأخرى إلى التعذيب . ذكريات كثيرة تعبر كشريط عبر مخيلته وهو يتأمل فرقة البوليس وهي وراء المكاتب تمارس أعمالها . وبآهات لا بداية ولا نهاية لها يعود إلى بيته متأبطا وجها عبوسا شاحبا حفرت أخاديد الزمن عليه علامات الإغتراب يسأل القدر عونا وتفريجا !!!... كانت رقية حائرة في أسمالها البالية ، كانت عفيفة ، صامتة ،تحوطها التساؤلات في صمت رهيب .. متى تُشفى والدتي ؟متى يعود أخي ؟ أين ذهب ؟ أهو لص أم إرهابي كما يقولون ؟ لماذا أذيت أباك وأذيتنا كلنا ؟ لماذا ..لماذا ؟.... أخي عرفته قلوقا ، متذمرا من الحياة ، من الفقر ، من البطالة ، من صدود الآخرين ، لم يسعفه الحظ في النجاح الدراسي ،ودائما يغرق في تفكير طويل ، أين أنت الآن يا أخي ؟ كانت رقية تحكي ...وتحكي ...وتحكي في صمت الجياع للكلمة ، للمواساة ، للشفقة ، تحكي في صمت اخترقت صيحاته صفحة وجهها الذي غادره غض الشباب وعلته صفرة التفكير في غد مجهول . مرّت الأيام ، وازداد المرض تكشيرا ، وخطرُه نخرَ آخر ملامح القوة فاستسلمت الأم للصمت الأبدي بعد معزوفات الأنين التي كانت تخترق الصمت المطبق ، رحلت إلى عالم الإستقرار... حزنت رقية حزنا شديدا ، واصطدم الابن واسودت الدنيا في عينيه ، حمّل نفسه المسؤولية ، لوكنت أعمل لأسعفت والدتي ، رحلت ْ ورحلت معها أحلامي ،كانت تقول : يا صالح عندما أُشفى سأختار لك ابنة أختي كزوجة ،آمال أ تتذكرها؟ إنها جميلة ومتخلقة، إنها تحبك يا صالح ..لا ياأمي توقفي ، أنا رجل فاشل لا أعمل ..لاأفكر في الزواج..لكن مشاعري تتهلل إلى فرح قريب ...آه ...آه. وبأهداب مرتعشة ونبضات سريعة تسافرُ رقية إلى والدها أين التوى ببرنوسه العتيد فوق فراشه الذي ملّ تواجده ، وكلما هتف له بالمغادرة ليتحرر قليلا كلما أقعد والدي الروماتيزم الذي نخر ركبتيه ..ايه رحلت الأم...رحل صالح إلى المجهول..ورحل أبي بوجوده أكلّمه فلا يسمعني إلا بعد الصراخ...كرهت ، ضقت وسافرت إلى الصمت هو الخيار ...الكثير قالوا خرساء ..نعم خرساء تسترق النطق نادرا. خرساء ..صماء ..لا أبالي فالكل مجهول جهل أيامي وغدي. استفاقت رقية من الهواجس على طرقات خفيفة على الباب ...التفتت إلى والدهاوهو يتهيأ لصلاة الصبح يتمتم بأذكار ِِ ِ وتسابيح . أسرعت إلى خمارها فوضعته على رأسها ثمٌ أومأت لأبيها أن هناك شخصا يدق على الباب وهي مذهولة في استفسار...إفتح ياأبي ..إذهبي أنتِ ، رقية تقدمت ، تراجعت ..الوجوم يخنقها ..الرعشة تتسلط على أعضائها ، يارب من سيكون في هذا الوقت ؟ لص ..وماذا عندنا حتى يسرقنا ..ربما أخي صالح عاد ..نعم هو يا إلهي . من الطارق ؟ وفي صوت خافت ، أنا صديق صالح افتحي ، من؟ لا أفتح!!.. أنا علي ، افتحي ، لي خبر عن صالح ، ماذا ؟ صالح..صالح أخي وتفتح الباب أنبهرتْ لمنظرالشبح وكانت رقيةتنظر إليه في استحياء ، سمعتها تحدثه بصوت خافت : أين أخي ؟ لماذا لم يأت معك؟ متى رأيته ؟...ظلَّ الشبح صامتا ، وقلق رقية يزداد ويلتهب ليعرف ويعرف ،ويحاول الشيخ جاهدا للوصول إلى الباب لكن ما إن وصل رقية : صالح ، صالح بصوت مرتفع ويخترق سمع الشيخ فيذهل ويسقط ميتا. تعالى صراخ رقية ، فُتِحتْ نوافذُ الجيران ، وقتلت الأضواء ظلمة الحي ،أسرع الجميع إلى بيت عمي محمود . كانت ليلة حزينة أ ُسرع بالشيخ إلى المستشفى وبات ليلته هناك تحت الإسعافات بين الموت والحياة ..إنه لم يمت ، كانت مجرد صدمة . عادت رقية إلى البيت لم تتعود البقاء لوحدها ، موت ..موت.. أبي ، أخي..آه نعم أين أنت يا أخي؟ أين علي ؟ رحل علي .. رحل الكل ..رحل الأمل ...آه . أرسلت رقية آهات القنوط وهي تعصف بمشاعرها المحبطة . وجاء الصباح ..، رقية لم تتعود الإعتماد على نفسها وكأنها غريبة في هذا المجتمع التي أصبحت المرأة فيه حيّة نابضة تحمل تكاليف وأعباء كثيرة ...واستسلمت للدموع لتواسيها وتخفف عنها . دق الباب ، إنها الجارة ، إنها أنا طلبت منها الإستعداد لتزور والدها في المستشفى ..وكم كانت سعادتها كبيرة دعاء متواصل أرسله لسانها الذي تعود الصمت ..ارتجافة تعلو جسمها حتى أنها لم تقو على ارتداء الحجاب ، ربتُ على كتفها..الله معك..الله معك وانطلقنا. وصلنا ..كانت الساعة العاشرة صباحا وبدأنا نسرع في الخطو عبر الرواق ..... رقية خطواتها تتراجع ...وجهها اصفر..ما بك ؟ رقية : لست أدري أحس بثقل ..بضيق في أنفاسي . أستغفري الله يا رقية ونصل الحجرة لم نجد عمي محمود ..إنه مات قبل قليل تعالت أصوات بعض الحناجر وتنطلق صرخات رقية أبتاه لمن تركتني ؟ لحظات صعبة...ألتف حولها الناس ..سقطت أرضا ولاذت بعدها في صمت ..كان علي بجوارها قد حضر ،وبعد لحظات استيقظت،فرأت علي: أبي مات يا علي مات ، مات .... أين صالح ؟ قل لصالح أبي مات ... وقف علي في ذهول يا رباه ماذا أقول ؟... وتمسكه رقية على غير عادتها ..في غير وعيها لماذا لا ترد ؟ قل لصالح...أين صالح ...؟ ويستجمع عليٌ قوته ...سيأتي اليوم صالح ، لكن ليس على رجليه بل محمولا لقد غرق ..غرق في البحر على الحدود الإسبانية .
عدل سابقا من قبل أم بشرى في الأحد 25 فبراير 2018, 12:12 pm عدل 1 مرات
محمد فهمي يوسفadmin المدير العام (1)
مؤسس المنتدىعدد المساهمات : 2487تاريخ الميلاد : 01/02/1945العمر : 79تاريخ التسجيل : 16/04/2013الموقع : منتديات رابطة محبي اللغة العربيةالعمل : مدير عام تربية وتعليم بالمعاشالمزاج : راضٍتعاليق : مدون وكاتب وأديب ناقد ، وخبير لغوي متخصص
أفضل مدوناتي ( غذاء الفكر وبقاء الذكر )
موضوع: رد: زفاف الرحيل/ قصة بقلمي الإثنين 19 فبراير 2018, 5:07 pm
آه آه للضياع وللحزن والألم والفقر والمرض
والوحدة وغرق البحر
ما بقي لرقية من آهات لتبثها لنا بأسلوبها الصامت
كان الله في عون الغلابة المحتاجين للرحمة والحنان!!
تمتعت بقصتك أستاذة أم بشرى الأديبة
بحزن ومواساة ومشاعر أصحابها الطيبين
لكني وجدت فيها بعض ملحوظات لغوية في الكتابة
آثرت أن تراجعيها أولا لتصويبها ما أمكنك ذلك
ففي الضبط والإملاء بعض الهَنّات التي لو صوبت
تتزين القصة برداء الصحة والسلامة
تحياتي لك
زائر زائر
موضوع: رد: زفاف الرحيل/ قصة بقلمي الأحد 25 فبراير 2018, 12:21 pm
ممنونة لمرورك و تفاعلك مع هذه القصة التي جمعت فيها
عيّنات مختلفة من الواقع لتحمل أكثر من حدث وأكثر من مغزى
بارك الله فيك على حسن المتابعة و التوجيه ولقد راجعتها وفعلا وجدت فيها
أخطاء لقد صوبتها وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي"