زائر زائر
| موضوع: "توبة أب"/ قصة بقلمي الخميس 12 أبريل 2018, 12:25 pm | |
| توبـــــــــــــة أب
أطلّ الصبحُ بخيوطه الباهتة لتُفاجئهُ الشمسُ بأشعتها الذهبية تحت وقع أغاريد طيور مسبحة شاكرة
الله على انشقاق يوم جديد، استيْقظت الجدة ُ وراحتْ في خطاها المتثاقلة نحو الوضوءوهي تتمتم : استغفر الله ...استغفر الله أخذتني الغفوة ولمْ أصل صلاة الصبح ...ايه لم ْ أنم الليلة إلا متأخرة ، كنتُ أفكر ُ
في حفيدي الذي طرده ابني ، ذهب ولم يعد ْ ، ايه ابني الذي لم يتعلم من الأيام إلا ّ العنف ، كل يوم يزف
لنا درسا جديدا في الرعب ، اللهم اهديه يارب وأعد له رشده واملأ قلبه بالايمان ..
كانت تمتمات يْرددها قلبها الذي يعتصر بالهموم التي ارتكنت على صدرها منذ وعت الدنيا لكن الثقل
ازداد وورثها تعب الجسد واكفهرار الوجه الذي تفننت الأخاديد في الرسم عليه .
انبثقت أسارير الصبح وبدأت الحركة تدب في البيت ، الأم مشغولة في إعداد الفطور ، والأولاد
يتسابقون في تهيئة أنفسهم للذهاب إلى المدارس والأب يُحملق بنظارته في من حوله وكأنه
يتأهب لمعركة جديدة كعادته .
كانت الزوجة تترقب صوته من بعيد، لكن لا صوت اليوم ولاحركة فبدأت تراودها الشكوك
والاستفسارات وهي تقول : اللهم اجعله خير .. اللهم نحن بين يديك ارحمنا فلا مفر منك إلاّ إليك
وبعدها تصحو على وقع خطى الأولاد وهم يتسللون إلى المطبخ لتناول فطور الصباح فأخذ كل واحد مكانه
إلا الأب في صمته الرهيب ..الكل ينتظر دخوله لكن لم يأتِ .
ذهبت الزوجة إليه بخطى متثاقلة وقلب يرتعش : ألا تتناول فطورك ؟ لقد تأخر الوقت للذهاب إلى
العمل ، رفع رأسه ورمقها بنظرة تحمل العديد من الاحتمالات ، ارتعدت فرائسها في صمت
استجمعت قواها وأعادت الكرة في دعوته للفطور، فقال لها لا عمل بعد اليوم ، أفهمْت بصوت
صارخ ونبرة قاسية ثمّ وقف واستدار يمينا وشمالا ثم ّ خرج بعد أن ركل الباب بركلة اهتزت لها
جدران المنزل .
كانت والدته العجوز تمتص الحدث بمرارة وتقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، سترك يا رب
اللهم اهديه ووفقه للخير وكن معه بالهداية والتوبة حتى يرحم أسرته و نفسه إنّك القادر على كل شيئ
أما ّ الزوجة راحت عيناها تختزن الألم في صمت تحشرج في عروقها وما عساها تقول غير : اللهم أرأف بحالنا وحال هؤلاء الأطفال ثمّ انصرفتْ إلى شغل البيت كعادتها وهي لا تكف عن الدعاء .
ذهب الأطفال إلى مدارسهم ولم يبق إلاعمر ابن الأربع سنوات يرمق الأم بنظرات وكأنه يطلب
استفسارا لما حدث كان يحس بما حوله لكن لا يجد لذلك استفسارا ثم اتجه نحو جدته .
فجلس بجوارها واضعا رأسه على ركبتها يستفرغ ألمه ويستشعر بشيئ من الحنان وهي تمسح
على رأسه وتقبل جبينه ، ثم أخرجت المسبحة من تحت وسادتها وشرعت في الذكر
وبينما هي كذلك إذْ بدقات قويّة ومتسارعة على الباب أفزعت الأم والجدة فأسرعت الأم لفتح الباب
فكان ابن الجار يقول : خالتي إنّ العم إبراهيم داسته سيارة واخذوه إلى المستشفى ، كان حادثا مروعا ، صرخت الزوجة
لتردفها الجدّة وهل مات ؟ أمات ابني إبراهيم ؟ ليتعالى صوت أبناء الجيران : لا ندري ..
آه كم كان الخبر صعبا عليهما ثمّ انطلقت الزوجة كالسهم فور الهاتف لترن على أخيها وتعلمه الخبر حتى يحضر
حالا ويأخذهما إلى المستشفى وفي لمح البصر أقبل وأخذهما .
كانت لحظات قاسية بكاؤهما ضجت به السيّارة والطفل الصغير يصرخ أمات أبي قولي أمي فيزداد التسخط
ثمّ يتذكران أنّ هناك ربّا يحميه ويُنجيه فيتصاعد الدعاء لرب العالمين ، والأخ يلوّح بكلمات الصبر وترك الأمر لله
حتّى وصلوا إلى المستشفى ، الخفقان ازداد والتساؤلات قويت ْ والخُطى تتأرجح بين القدوم والوجوم إلا أنّ العجوز
خارت قواها و أحسّتْ بدوار ثمّ سقطت ْ مغميا عليها ، كانت الزوجة تلاحق في الخطو أخاها وقلبها معلّق بالخبر
اليقين الذي يختفي وراء الغرف التي لا تدري أيَّ واحدة تضمُّ زوجها وسرعان ما استفاقت على ضوضاء وراءها
استدارت فلم تر الجدة ، يا إلهي أين ذهبت ؟ ثم تراجعت للوراء لتبحث عنها وقصدت مكان تجمع الناس
فيا للهول إنها الجدة مرمية أرضا وقد اعتلى الإصفرار صفيحة وجهها والعرق يُصافح جبينها والناس يتسخطون
عليها : مسكينة هذه العجوز فتسللت من بينهم وارتمت عليها أمي ..أمي ما بك
كانت جثة هامدة لا ترد على أحد وتشق عباب الحاضرين بشهقات بكاء وتقول : أو تتركينني أنت أيضا
في هذا الظرف الصعب ، رحماك ربي ، انزل رحمتك علينا كان أخوها قد لحق بها ثمّ انحنى على الجدة وحملها
مسرعا بها إلى قسم الإسعافات وأوصى أخته بالبقاء معها ليذهب هو إلى إبراهيم ليتحرى الخبر .
حضر باقة من الممرضين ليمدونها بالإسعافات الأولية ريثما يحضر الطبيب ، وإذا بصوت ٍ يخترق الغرفة :
جدّتي ..جدّتي ما بك؟ .
إنّه حفيدها الذي تحبه كثيرا وطرده والده لأنه كان دائما يُدافع عن أمه لمّا يُشبعها الأب شتما وضربا لأتفه الأسباب
فأحمد ولد صالح عند طرده اختار المسجد له مأوى وتعرّف على ناس صالحين أخذوا بيده وأمّنوا له مسكنا
وساعدوه على إكمال دراسته حتى أخذ الباكالوريا لكنه لم يكمل دراسته وفضل العمل ، وتمكن أحد أصدقائه
من تأمين عمل له كممرض في المستشفى وظل طيلة فترة فراغه منكبا على حفظ القرآن حتى ختمه ، لا ينقطع
عن صلاته وعبادته ، ولا يتوقف عن صوم الإثنين والخميس وأيام البيض ، عوّضه الله فرقة الأهل بجماعة
مؤمنة أخذت بيده وبصحبة قرآن لا يُفارق لسانه .
وفي لهفة يقيس ضغط جدته فيجده مرتفعا وكذا السكر فيسرع إلى إعطائها الدواء وحقنة من الأنسولين
ثمّ أسرع لإحضار الطبيب حتى يفحصها ويعطيها وصفة الدواء وثمّة كانت المفاجأة ، كانت والدته تنتظر
في الرّواق والدموع غمرتْ وجهها الشاحب ، أمي ..أمي وأسرع لتقبيلها ، خمس سنوات لم يراها لأن والده
هدده بطلاق أمه إن ّ جاء وزارها أو حاول أن يراها فخاف الإبن على شتات الأسرة فاكتفى بالبعد عنها
وترك الأمر لله ..
كان لقاء وفرحة في فضاء الحزن والقلق ، طمأنها أنّ الجدة بخير ، تحتاج فقط لبعض الدواء وشيئ من الراحة
ثمّ سألها عن سبب حالتها لتفاجئهُ أبوك ، أبوك هو بين الحياة والموت ، إسرع إليه .
ولكن ما به أبي وأين هو؟
أجهشت الأم بالبكاء ثم قالت : أبوك اصطدمته سيارة ولا أدري أهو حي أو ميّت الآن ، إلحق بخالك إنه معه الآن
ولكن خذني معك لأطمئن عليه ، وفي لمح البرق توجها إلى قسم الاستعجالات الذي وجداه يُغص بالحالات المستعجلة
وأخذ كل واحد منهما يتطلع في أي غرفة هو لكن لا أثر له ، ازداد فزعهما ، يا رب أين هو أمات ؟
تقدّم أحمد من أحد الممرضين وسأله عنه فأخبره أنّه في العناية المركزة لأن حالته خطيرة .
يا إلاهي كنْ معه واشفيه ، وأعده للحياة لأراه ثانية وأسامحه على ماجرى بيننا ، أنا خائف عليه من عذاب لا يرحم
هكذا كان أحمد يحدّث نفسه وخطواته في تسارع نحو قسم العناية المركزة ، والأم لا تكفّ عن البكاء
أترى لو يموت كيف يكون حالنا ووضعنا ....
لحظات مريرة تشربت بحزن قاس وخوف مرعب ، نسى الكل تصرفات الأب معهم ولا يفكرون إلا في نجاته
وعودته للحياة .
وصل أحمد وأمه القاعة وجد االخال ينتظر ، أسرع إليه أحمد كيف هو ؟ استدار الخال بعد أن رفع رأسه
ولم ينتبه لأحمد ، الوضع لا يسر.. ثلاث ساعات ولم يخرج أحد ، يارب كن معه يا خالي ، يا خالي من ْ أحمد ؟
ووقف ثم قبّله في شغف كيف حالك يا ولدي ؟ وأين أنت ؟ ومن أخبرك؟ الحمد لله يا خالي
منْ يعتصم بالله يجد له مخرجا ، ومن ينتهج طريقه فلن يظل أبدا .. وأنا.. الله أنعم عليّ بالحماية والصون
لأني هربت ُ إليه وقت َ شدتي في الظلام والناس نيام بالصلاة والدعاء فكان لي العون المعين ويسّر لي الطريق
والحمد لله أنا أشتغل هنا بالمستشفى ، الحمد لله يا ولدي ، سألت عليك كثيرا لكن لم أجدك ، لا عليك : إنما الأعمال
بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، فالله سبحانه وتعالى سخر لي من أخذوا بيدى وقت الضيق وهذه نعمة لا أنساها
أبدا .
الحمد لله .. الحمد لله ما كنت أتصور أن أجدك ومتى ؟ ساعة شدة وضعية أبوك ، وفجأة خرج الطبيب
وأسرع أحمد إليه كيف حاله ؟ أخبرني ؟ حالة صعبةجدا لكن الحمد لله نجى بأعجوبة .
وتُرفع الأكف بالدعاء شاكرة حامدة الله على نجاته ، ترك أحمد الأم والخال وذهب ليطمئن على جدته ، فتح الباب
ببطء ودخل ، كانت الجدة تتمتم بدعاء خافت والدموع تنحدر على خديها في توال مستمر : اللهم اشفي ولدي
وعافيه فأنت الشافي يا رب ، يارب أنا عجوز كبيرة وأبناؤه أطفال صغار فخذ بأيدينا ، ويُفاجئها أحمد كيف
حالك الآن جدتي وهو ينحني عليها ليقبلها ، منْ أحمد حبيبي ، قرّة عيني ، أعدتَ؟ من أتى بك إلى هنا ؟ وراحت
تسترسل بأسئلة كثيرة كاد أحمد لم يسمعها لأنه منشغل بتقبيل جدته التي كان يحبها كثيرا ،
أه من الأيام فرقت بينه وبينها انشغلت ذاكرته بالحديث وتوقفت عن سماع أسئلة الجدة ...حتى يستفيق على لمسات
حانية من يدي جدته التي لم تسعها الفرحة وأنستها لبرهة التفكير في حالة ابنها .
أنا الحمد لله جدتي ، هاأنا بينكم ومعكم لا تحزني ، المهم الحمد لله على سلامتك وكما أرى إنّك في تمام الصحة
والعافية عاد الضغط والسكر إلى وضعهما الطبيعي وسأخبرك بخبر سيفرحك ، ما هو تقول الجدة ؟
لقد نجى أبي من موت محقق لأن الله استجاب لدعائنا وكتب له الحياة من جديد ؟
أو علمت الخبر ؟ ابتسم أحمد وقال : شاء الله أن أكون إلى جنبيكما وقد كنت
خذني عنده يا ولدي يا قرة عيني وتقبل يديه ووجهه وتمسح على رأسه لم تصدق ما ترى .
ساعد أحمد جدته في النزول من على السرير بعد أن أخذ رخصة من الطبيب بأن وضعيتها الصحية مستقرة
واتجها صوب الوالد حتى وصلا ، كان الأب قد استفاق وسمح الأطباء برؤيته ، التفت العائلة حوله وهو في حالة
يُرثى لها رجله معلّقة لأنه حدث بها كسور ورأسه ملفوف بقماش أبيض ووجهه أصفر ذابل لا يكاد يفتح عينيه
الكل ينظر إليه ، و بينما كانت العيون متسلطة في صمت على وجهه اخترق صوت خافت هذا الهدوء : الحمد لله
على سلامتك أبي ، منذ سمعت الخبر وأنا لم يهدأ لي بال ، دعوت الله أن يُشفيك وأن أُكحل نظري برؤيتك
من ْ لي غيرك ، أنت أبي وكلمة أبي تكفيني وتملأ غربتي ووحدتي ، فنظر إليه الأب في صمت وكانت الدموع
وحدها كفيلة بالإجابة وأماء إليه بأن يقترب منه وضغط على يده وكأنه يقول له : سامحني يا ولدي لقد أخطأتُ
في حقك ...سامحني كانت الضغطات متوالية وهو يُحدق في وجهه وفي وجه زوجته وأ مه وكأنه يُعلن التوبة
يُعلن عن ميلاد حياة جديدة لن يؤذي فيها أحدا ثمّ يرفع ببصره إلى السماء مثقلا بالندم : ماذا لو متُ وأنا
على معصيتي كيف ألقاك يا ربي ... اللهم اغفر لي
كان الكل ينظر إليه ويقول الحمد لله على سلامتك .
- انتهت القصة - |
|
يوسف قبلان سلامة عضو جديد
عدد المساهمات : 467 تاريخ الميلاد : 28/04/1978 العمر : 46 تاريخ التسجيل : 22/06/2017 الموقع : --- العمل : شاعِر وكاتب ومترجم المزاج : الحمدلله تعاليق : (لولا المشقةُ سادَ الناسُ كُلَهم ... الجودُ يُفقِر والإقدامُ قَتَّالُ)- المُتَنَبّي
| موضوع: رد: "توبة أب"/ قصة بقلمي الخميس 26 أبريل 2018, 9:11 pm | |
| سلام الله أستاذتنا السيّدة ام بُشْرى، تقديرنا العميق للقِصَّة التي قَدَّمْتِها والتي تَحْمِل أبهى المعاني بأسلوب قِصصي أدبيّ متين الحبْك كما عهدنا من حضرتكم دائماً. قِصَّة اخْتَصَرَت معاني الألَم والقَسْوة والتَّوبة، لكنها جاءت هذه المَرَّة على يَد الوالِد الذي أخطأ في حَقّ ابنه لكنّه تاب على إثر حادِث تَمّ بتدبير إلهي الأمر الذي أعاد إليه صوابه فعاد إلى الطريق القويم. ثَمّة هِنّات بسيطة حدثت أثناء طباعتكم القِصَّة، مَثَلاً:
يَسْتفْرِغ ألمه: رأيت أن يشكوها ألمه أو يبُثّها ألمه أفْضَل لكن الخيار لكم. خمس سنوات لم يَراها: لَم يرها لأن لم أداة جزم يا إلاهي: يا إلهي من ينتهِج طريقه فلن يظل: فَلن يضلّ | |
|
زائر زائر
| موضوع: رد: "توبة أب"/ قصة بقلمي الجمعة 27 أبريل 2018, 1:39 am | |
| بارك الله فيك على التصويب فعلا أخطاء لا تُغتفر عجبت كيف وقعت فيها
أمّا عبارة " يستفرغ ألمه " تعمدتها لما فيها من تشبيه بين الشيئ غير المرغوب فيه على المعدة
يكون نصيبه الإستفراغ كالألم غير المرغوب فيه على النفس يستوجب استفراغه حتى لا يؤثر على صاحبه
المهم سعيدة جدا بمرورك وتفاعلك وتصويبك والناقد دائما هو من يُمحص و يثمّن ويُرتب .
تقديري . |
|